لم يتخيل المزارع الفلسطيني وليد زعرب أن يستفيق ذات صباح ويتفاجأ باختفاء منحلته بالكامل. تلك المنحلة التي بناها مثل خلية على مدار ثلاثين عامًا. لقد ورثها زعرب عن أبيه كما يرث المرء اسمه أو ملامح وجهه، لكن اليوم تحوّلت صناديقها الخشبية التي كانت تطن بالحياة إلى ألواح محترقة.
في رفح، جنوب غزة، حيث تقع منحلته التي تضمّ 135 خلية نحل، لم يعد هناك سوى ركام بعدما اجتاح الاحتلال الإسرائيلي المنطقة وأحكم قبضته عليها. "لم يتبقَ شيء"، يقول زعرب بيدين مرتعشتين، "حتى لو عدنا اليوم، فمن أين نبدأ؟ النحل مات، والمُعدّات تحوّلت إلى خردة".
وتقترب خسائر زعرب من 70 ألف دولار، رقمٌ بالكادّ يحاول استيعابه وهو يتذكر سنوات جمعه وبنائه؛ لكن الأصعب من المال هو الزمن الضائع. يتساءل بصوتٍ خفيض: "هل سأعيش طويلًا لأستردّ ما فقدته؟".
الأزمة لا ترتبط بزعرب وحده، فأشقاؤه الثلاثة، الذين ورثوا المهنة ذاتها، خسروا 150 خلية لكلٍ منهم. وأصبحت العائلة التي كانت تنتج عسلًا يُضرب المثل في جودته- كما يقولون- تعيش الآن على هامش الكارثة.
قبل الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع منذ 2023، كان عسل غزة يُباع بأسعارٍ تتراوح بين 60 و80 شيكل للكيلو. لم يكن مجرد سلعة، بل جزءًا من نسيج اقتصادي رغم تردّيه إلا أنّ الآلاف يعتمدون عليه، فتُشير التقديرات إلى أنّ قطاع النحل كان يشغل آلاف الأفراد بين مُربي النحل، العاملين في تعبئة العسل، والموزعين.
وبحسب التعداد الزراعي الفلسطيني لعام 2021، بلغ عدد خلايا النحل في قطاع غزة حوالي 16,748 خلية، أيّ ما يعادل 26% من إجمالي خلايا النحل في فلسطين، وهو جزءًا مهمًا من الثروة الحيوانية في غزة، حيث تساهم محافظة شمال غزة بحوالي 42% من أعداد خلايا النحل في القطاع، أمّا اليوم، تحوّل هذا القطاع إلى مثالٍ صارخ على الدمار الذي لا يُفرِّق بين البشر والأشجار والنحل.
الأرقام هنا ليست مجرد إحصاءات، بحسب تقدّيرات غير رسمية، فإنّ 400 صندوق نحل متبقٍ في غزة هي "أمواتٌ على قيد الحياة". لا أدوية، ولا غذاء، ولا أمل قريب.
رمزي غبن، نحال من بيت لاهيا شمال قطاع غزة، كان يملك 300 صندوق نحل. لكنّ مزرعته، القريبة من الحدود، كانت مصدر قوته ونقمته. "النحل يحتاج إلى مساحات خضراء، لكنّ تلك المساحات جعلتنا هدفًا سهلاً للاحتلال". فيما تُقدّر خسائره بـ 150 ألف دولار، بما في ذلك ماكينة إنتاج العسل التي كانت بمثابة "قلب" عمله.
لم يتبقَ لغبن سوى 20 صندوقًا من النحل نقلها إلى خانيونس، لكنّها بالنسبة إليه مصدر قلق دائم فالنحل يموت جوعًا. "بحثت في كل غزة عن شمع أو سكر لإطعامهم"، يقول غبن، "لكن الأسعار مرتفعة للغاية منذ إغلاق المعابر في مارس الماضي".
يشير الناطق باسم وزارة الزراعة في غزة، محمد أبو عودة، إلى أنّ الخسائر في قطاع النحل بلغت 2.9 مليون دولار. بعدما قُتلت عشرون ألف خلية نحل، فقُضيّ على 250 طنًا من إجمالي إنتاج العسل السنوي. "كنا نخطط لاستيراد معدات حديثة"، يقول أبو عودة، "لكن كل شيء مُعلّق الآن على وقف إطلاق النار وفتح المعابر".
رئيس جمعية النحالين، وليد أبو دقة، يقول إنّه استوّرَد قبل شهر من الحرب، مُعدّات من أوروبا بقيمة 32 ألف دولار، منها 100 صندوق نحل مُقاوِم للتغيرات المناخية؛ لكن جميعها تدمّرّت، ووصلت خسائره الشخصية إلى 180 ألف دولار.
لكنه على الرغم من ذلك يحاول أن يكون أملاً للنحالين فمن منطلق مسؤوليته الاجتماعية تجاههم، جهزّ أبو دقة بعد وقف إطلاق النار المؤقت في مارس الماضي، شُحنة من 1000 صندوق نحل بالتعاون مع شركاء في مصر والضفة الغربية.
لكن لم يحصل على تصريح لدخولها قطاع غزة وما زالت حتى الآن جاهزة في الضفة الغربية، يأمل في إدخالها فور انتهاء الحرب.
وعند سؤاله، كيف سيتعافي قطاع النحل بعد الحرب؟ أجاب أبو دقة بعد صمت لثوان: "فترة التعافي لن تكون سهلة أبدًا، فحتى لو دخلت هذه الصناديق، فمن سيملؤها بالنحل؟ الأشجار التي كان يتغذى عليها النحل دُمرت، والنحالين لم يعودوا يمتلكوا المال لشراء مستلزمات جديدة بعد الخسائر الفادحة التي أصابتهم".
من ناحيته، يقول المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر، إنّ الكارثة امتدت إلى 600 عامل فقدوا مصدر رزقهم. "هذا ليس مجرد توقف للإنتاج"، يُؤكد، "بل ضربة للقدرة الشرائية وللاقتصاد المحلي ككل". العسل، الذي كان يُصدَّر أحيانًا إلى الضفة الغربية، أصبح سلعةً مستحيلة، والسوق المحلي سيظلّ لسنوات يعتمد على الاستيراد.
ويرى حقوقيون أنّ تدمير المناحل ليس مجرد "أضرار جانبية" للحرب؛ بل انتهاكٌ صريح للمواد 54 و55 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف. فيما يُشير المحامي يحيى محارب إلى أنّ القوانين الدولية تحظر تدمير البيئة الطبيعية أو الممتلكات المدنية التي تضمن بقاء السكان، يقول: "إسرائيل لم تُدمِّر النحل؛ بل دمرت سبل العيش".
يدعو محارب المؤسسات الدولية إلى ضرورة التدخل لإعادة إحياء الإنتاج الحيواني في غزة، وتقديم كل ما يلزم للعاملين فيه. يضيف: "غزة تحتاج إلى أكثر من مساعدات إغاثية، إنّها تحتاج إلى عدالة".
العدالة هنا قد تعني، بالنسبة لوليد زعرب ورمزي غبن، شيئًا بسيطًا: أن يعودا إلى منحلتيهما ذات يوم، ويسمعا مرة أخرى ذلك الأزيز الخفيض "صوت النحل".
موضوعات ذات صلّة:
الثروة الحيوانية تبخرت: عن إفلاس مربي المواشي
سحق الفراولة: ضربة قاسمة للزراعة والاقتصاد
كم تحتاج سلة غزة الزراعية وقتاً للتعافي؟
مناحل غزة