حكاية فنانة غزّية تشكل الألم بالطين

حكاية فنانة غزّية تشكل الألم بالطين

في زاوية من منزلٍ نصف مُدمّر بغزة، حيث يتساقط الغبار من السقف المُتشقق مع كل هزةٍ أرضية تُسببها القذائف، تجلس ياسمين الداية (24 عامًا) تُحاول أن تُشكِّل من الطين عالماً جديداً يحكي قصّة غزة. 

بين أصابعها، كتلة من الطين المخلوط بالشوائب من بقايا صلصال خصص لصنع فرنٍ عائلي يستُخدم للطهو، قبل أن يتحوّل إلى مادة خام لفنّها. ملابسها مُلطخة بالطين، لكنّ عينيها لا تلتفتان إلى الفوضى من حولها؛ بل إلى ما يُمكن أن تصنعه من هذه الكتلة البنية الهشة.  

لم تكن ياسمين تعلم أن شغفها بالرسم والنحت، الذي بدأ موهبةً طفولية ثم تحول إلى تخصص أكاديمي في جامعة الأقصى، سيصبح يوماً وسيلتها الوحيدة لمواجهة الحرب. تخرجت ببكالوريوس التربية الفنية في الرسم والفسيفساء والتصوير التشكيلي، لكنها آثرت أن يظل النحت والرسم رفيقيها الدائمين. 

قبل الحرب، كانت لوحاتها تعج بالألوان، تحكي عن الحياة في غزة بكل ما فيها من تناقضات: الجمال والقهر، الأمل والحصار. أمّا اليوم، تحوّلت ألوانها إلى درجات الرمادي، وموضوعاتها إلى ركام المنازل وأيدي تخرج من تحت الأنقاض وأجساد بلا أطراف.  

عندما بدأت الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023 على قطاع غزة، نزحت ياسمين مع عائلتها إلى محافظات جنوب قطاع غزة، تاركةً وراءها كل أدواتها الفنّية. لم تستطع حتى أن تحتفل بحصول مشروع تخرجها على المركز الثالث في مسابقة محليّة. 

ومرّت ستة أشهر في الحرب دون أن تلمس الداية فرشاة أو قلم رصاص، تقول: "كانت ستة أشهر من القصف اليومي ومن المشاهد التي لا تُمحى من الذاكرة". ثمّ، في يومٍ ما، وجد شقيقها بين الركام دفتر رسم وبعض الألوان، أحضرهما لها فوجدتهم كدواءً لإخراجها التدّاعيات النفسية للظرف الذي تعيشه.  

"الرسم كان المنفذ الوحيد كيلا أنفجر"، تقول ياسمين بينما تنظر إلى إحدى رسوماتها التي تُظهِر طفلة تنظر إلى السماء بذهول، نفس النظرة التي رأتها في عيون طفلةٍ حقيقية بعد قصفٍ عنيف. "كل لوحة هي تأريخ للألم، حتى لا ينسى أحد ما حدث لنا".

لكنَّ الرسم لم يكن كافياً وحده، فأصبح الطين الذي تجمعه من حولها مادتها المفضلة أيضًا على الرغم من أنّه غير ملائم للنحت تمامًا. تُردِّف: "أحياناً أنحت لساعات، أترك القطعة لتجف، ثم أعود لأجدها قد تشققت أو تحطمت بمجرد لمسها لأنها مليئة بالشوائب".

تعيد الكَرة مراراً، تُصلح ما يمكن إصلاحه، وتستسلم أحياناً. في إحدى المرات، نحتت يدًا تخرج من تحت الركام، مُستوحاة من قصة شابٍ اختفت جثته ولم يبقَ سوى يده المبتورة. وفي منحوتة أخرى، جسدَّت فتاة تحاول المشي بعكازين بعد أن فقدَت ساقيها.

ما تفعله ياسمين ليس مجرد تعبير عن الألم، بل محاولة لإنقاذ ما تبقى من تراث غزة الثقافي. منذ بداية الحرب، دُمرت المكتبات، المتاحف، الجداريات الفنية، وحتى المراكز الثقافية التي كانت تدعم فنانيها. وكل هذا يخالف اتفاقية لاهاي لعام 1954، التي تحظر استهداف الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات؛ لكن القصف الإسرائيلي لم يميز بين مدرسةٍ ومستشفى ومتحف.

بحلول فبراير 2024، قتل الاحتلال الإسرائيلي 44 فناناً/عاملاً ثقافياً، فيما بلغ عدد ضحاياهم 41 خلال الأشهر الثلاثة الأولى للحرب. وحتى 27 مايو 2025، تم توثيق 110 موقعاً ثقافياً مدمّراً أو تضرراً في غزة، بينها 77 مبنى تاريخياً و12 متحفاً و5 مكتبات عامة. فيما تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الخسائر التراثية قُدّرت بـ 319 مليون دولار، ضمن الأضرار الإجمالية التي تجاوزت 18.5 مليار دولار.

"كنت أشارك في ورشاتٍ فنّية بمؤسسات تدعم الشباب، والآن لم يبقَ منها شيء"، تقول ياسمين. وحتى أدواتها البسيطة فرشاة، ألوان مائية، سكين نحت، صارت أشياء يندر توفرها في قطاع غزة اليوم. 

ونتيجة لذلك، تعتمد هذه الفنانة على الملاعق المنزلية لتشكيل الطين، وتُخبئ منحوتاتها تحت الطاولة كلما اهتز المنزل من القصف؛ خوفاً من تحوّله إلى غبار وركام مثل الكثير من الأشياء حولها.  

في إحدى الليالي، سقط صاروخ على غرفة شقيقها في المنزل. وفي تلك اللحظة لم تمتلك ياسمين وقتاً للبكاء، إذ هرعت مع عائلتها لإنقاذه مَن منهم تحت الأنقاض. وعندما عادوا إلى البيت، كان أخيها الذي نجى من تحت الركام فقدَ قدمه. 

في تلك الليلة القاسية كما تصفها الداية، لم يُغمض جفنها ولم تستطع النوم، فأمسكت بالطين وبدأت تنحت، كأنّها تحاول تجسيد ما حدث. تتابع: "نحتت فتاة تحاول المشي بعكازين، ثم نحتت شاباً يجلس على كرسي متحرك... كل مرة أكرر فيها المشهد، كأنّي أتعامل مع الصدمة من جديد".

من المُحزن أيضًا أنّ الحرب سرقت منها حتى ذكرياتها الجميلة. توضح قائلة: "كنت أرسم البحر، الأشجار، الوجوه الضاحكة. أمّا الآن، كل ما أرسمه هو الدمار". تفتح دفتراً قديماً لتُري لوحاتها قبل الحرب، ثم تُقارنها بلوحاتها الحالية: هنا سماء زرقاء أصبحت دخان قاتم، وهنا شجرة زيتون صارت جذعاً محترقاً.

تتنهد الفنانة الشابة وتقول: "أشعر أنني في سجن كبير"، تُرّدف: "كل ما أريده هو حياة هادئة، حيث أرسم الحب، لا الموت". تحلم بأن تعرِض فنّها خارج أسوار قطاع غزة المُحاصر، ليكون صوتاً للذين لا صوت لهم؛ لكن الحصار المستمر منذ 18 عامًا والذي ازداد تعقيدًا مع طول أمد الحرب يمنعها حتى من الحصول على ألوان جديدة.  

على الرغم من ذلك، تواصل الداية العمل، وهي تعلم أنّ الفن قد لا يُوقِف الحرب، لكنّه يحفظ الذاكرة. "حين ينتهي كل هذا، سينظر الناس إلى هذه المنحوتات واللوحات ويتذكّرون ما حدث. ربما، يومًا ما، سأعود لأرسم الألوان مرّة أخرى".  

تحني ياسمين رأسها فوق قطعة طين جديدة، تتحسس بيديها ملامح الصورة التي تريد إحياءها. كل لمسة تنقل إليها دفء الحياة التي تفتقدها غزة. تُعيد تشكيل العالم في محيطها كتلة تلو الأخرى، وكأنّها تزرع الأمل بحركة أصابعها بينما يُدمر القصف كل شيء حولها.

 

موضوعات ذات صلّة:

كيف تحوّلت الموسيقى إلى تصبيرة على الجوع؟

غزة: أطفال يرسمون الأضاحي بدلاً من لمسها

مهندسة ديكور تبث الروح في حطام الشقق والمقاهي

ورود الدهشان: من رماد الحرب إلى العالمية

"ياسمين" تقاوم بالفن .. "لوحات رمادية" من تحت الأنقاض

فنانو غزة التشكيليون... ألوان الحرب وآلامها